recent
أخبار ساخنة

الحارس قبل السور...

الصفحة الرئيسية

 


* *

*بقلم: سلطان بن محمد القاسمي*


نقل عن المفكر المغربي المهدى المنجرة قوله؛ عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان؛ بنوا سور الصين العظيم واعتقدوا بأنه لايوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن ..!خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات ! وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه ..!بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب. فلقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس..!

ولا أدري لمَ أشير إلى الصينيين دون غيرهم، ألأنهم بنوا سوراً؟ فهناك من أمم الأرض لم تبن سوراً ولم تبن حارساً! والحمى عندهم مستباحة! ربما هو الدرس الذي استفاد منه الصينيون ولم يستفد منه الآخرون، وإلا فنحن الأمة التي اختارها الله تعالى لتكون خير الأمم، نغزى في كل عام مرة أو مرتين، وما ذلك إلا لأننا تنكرنا لمنهج الله في بناء الإنسان الذي يحمي الكرامة والأوطان.

وللإنصاف - وهو مطلب العدل في القول والعمل- ما يزال في الأمة تلك الجذوة الايمانية التي تستمد نورها من نور الايمان ودين الاحسان، وما يزال في الأمة مواضع فخر تجدها في شعوبنا العربية هنا وهناك، وأنا اتحدث عمن عرفتهم وخالطتهم، ومنهم الشباب الأردني والعراقي والخليجي فضلاً عن الشباب العُماني الذي عايشته وما أزال، لقد وجدت فيهم قيمَ الخيرية راسخة، ومعالم النباهة والفطنة بما يحيط بهم واضحة، فهي أمة بخير، لكن جهودها مبعثرة غير منتظمة، والهمم فيها أضعفتها لقمة العيش وأنهكتها توالي المحن والحروب.

ولذا فإننا نقولها بفخر ممزوج بطموح إنه وبالرغم من الضغف الذي ينتاب أمتنا إلا أن شعبنا يحمل جينات الأمانة والولاء لدينه وقيمه، ما يمكن أن نصفه بأنه السور المعنوي الذي يحمي الوطن، وفيه من الخيرية ما يثلج الصدر في زمن لم يبق فيه سور إلا واخترق، لكن هل هذه الجينات ما تزال في طور البذرة، أم أنها شاخت ثم هرمت، أو أنها ما تزال غضة طرية تنتظر أن يشتد عودها، أو أن يفوح عبيرها؟ لا ريب أنها بذرة لاتموت، ونبض لايتوقف، ليس فقط لأننا نحن نريد ذلك، وإنما لأنها بذرة من صنع الله،ومن وضع الله فيه بذرة هيأ له أسباب سقايتها ورعايتها، فيتفقدها كي تنمو وتكبر،  إلا كسول لايريد لنفسه مجداً ولأمته رفعةـ ستبقى بذوره ذابلة وسط أشجار باسقة.

وبهذا فإن الطموح هو التعويل على هذه الخيرية أن نبلغ فيها مبلغاً يقينا غدرات الغادرين، وغفلات المحبين، فنرعى ما أودع الله فينا من أسباب الارتقاءـ ونتشبث بعرى المجد عن إصرار وتحد، ولا عذر لنا في أن نبني الأسوار ونترك بناء الانسان، فالوقت والجهد والمال لعمران النفوس أولى منه في عمران الحجر، وكما قال الشاعر:

 

أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن هذه المقاربة النظرية ليست حكراً على نطاق حدود الأمة المعنوية والأرضية، بل هي مقاربة أُسرية ومجتمعية وعلمية ومؤسسية، وحيث يكن الإنسان تصلح المعادلة، فلا يمكن تصور وجود امة قوية مرهوبة الجانب إلا كانت مؤسساتها الاجتماعية والخدمية والسيادية تحرص على بناء الانسان أكثر من بناء الأحجار، وتشييد العمران، لأن وجود حصن عظيم على بابه إنسان أمين هو حصن منيع، أما إذا كان الحارس يباع ويشترى ، ومنه يتسلل الأشرار، فأي قيمة لحصن طويل عريض وهذا حارسه!.

فالأم تحرس البيت، والجندي يحرس الحدود، والموظف يحرس دائرته، والمعلم يحرس الجيل ويعلمه، والخبير يحمي مستقبل مؤسسته، والكل شركاء في بناء الأمة،  وهم مجتمعين يمثلون حصنها وسورها وحارسها.

ومما يذكر في هذا السياق ما نشره الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو عن قصة يتجلى فيها البعد الإنساني الذي يوحّد جميع أبناء الكرة الأرضية، جاء فيها: كان الأب يحاول قراءة الجريدة، لكن ابنه الصغير لم يتوقف عن مضايقته، وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقة من الجريدة، كانت تحتوي على خريطة العالم، ومزقها إلى أجزاء صغيرة وقدمها إلى ابنه قائلاً: أعطيتك خريطة للعالم فأرني أتستطيع إعادة تكوينها كما كانت من قبل، ثم عاد لقراءة صحيفته وهو يعلم أنّ ما فعله من شأنه أن يُبقي الطفل مشغولاً بقية اليوم. إلا أنّه لم تكد تمر سوى 15 دقيقة حتى كان الطفل قد عاد إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة.. فتساءل الأب مذهولاً: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟ رد الطفل قائلاً: لا أعرف عن ماذا تتحدث، لقد كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة.. وعندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء العالم أيضاً..!

من هنا تتجلى حقيقة وجوهر الانسان في الوجود، وغايته النبيلة في إقامة العدل، وسعيه في تحقيق الحرية المسؤولة، واليقظة في إدراك الاشياء، والتمييز بين الكماليات والضروريات، والشكليات والاساسيات، لا ليلغي شيئا من ذلك وإنما ليعرف كيف يبدأ خطوته الأولى في بناء راسخ على هذه الأرض، ويتعلم كيف يبني ويحمي، ليدرك أن الانسان هو أغلى ما يمكن التعويل عليه في هذه المعمورة. فبناء الانسان له الأولوية إزاء بناء العمران.


google-playkhamsatmostaqltradent