recent
أخبار ساخنة

سر . بيت صديقي الأستاذ "محمود" .

الصفحة الرئيسية


 بقلم /الاستاذ نشوان ذنون 

كاتب قصة عراقي 

كنت في زيارة عمل . الى بيت صديقي الأستاذ المهندس محمود . فإستقبلني بكل الحب و الإحترام . وفي أثناء دخولي الى بيته . أبهرني جمال بعض التفاصيل الرائعة في الحديقة . و سحرني نظام غرفة الضيوف التي كنت أجلس فيها . مما دعاني الى الإستفسار منه عن ((سر)) (هذهِ المَلَكَة) من (النفحات الطيبة) و ( الهدوء العميق ) و (الفخامة الأنيقة) و گأني في بيته . أعيش أجواء ساحرة من قصص الف ليلة و ليلة . فأبتسم ملأ قلبه . ثم أجابني . مسترسلاً بكل هدوء و بالتفصيل  . قال لي الأستاذ محمود . إنه من مواليد مدينة الموصل في حي الفيصلية سنة ١٩٥٤ . و سيكمل عامه السبعين في شهر تموز  ٢٠٢٤  . يقول لي الأستاذ محمود . في سنة ١٩٥٢ إنتقل والدي للسكن في هذا البيت في حي الفيصلية الحديث . و بعد عامين ولدتُ أنا . فكنت الحدث السعيد و الفال الحسن و الطفل المدلل . كنت الأصغر من عائلة تتكون من (٤) أولاد و (٣) بنات . كان بيتنا كبير جداً بمساحة ٦٠٠ متر و نظام بناء غربي حديث جداً و طراز نادر و أثاث أُرستقراطي . فقد كان والدي مهندس معماري مرموق و عمل بمشورة أصدقاءة المهندسين . على كل التفاصيل المهمة لإنشاء بيت يواكب حداثة الزمان لأكثر من مئة عام . يقول لي الأستاذ محمود . نشأت في بيت يحب العلم و الثقافة و المعرفة و يتنافس أولاده في المدرسة على المراكز الأولى . و كانت المحبة عارمة بين جميع أفراد العائلة و كان للوالد والوالدة (رحمهم الله) محبة و هيبة و قداسة لا يمكن أن نفرط بعقد لؤلؤها الثمين . كنتُ الصغير الذي يراقب الحركات . و يحفظ الأحاديث و الكلمات . و يتابع تفاصل الأحداث و السكنات . من خلال طفولتي البريئة و أنا أرفل بحنان أمي و عطف أبي و محبة أخوتي (فإختزنت طفولتي في مخيلتي و بين دَفَتَيٌ قلبي) . و بعد (٢٠) عام من الدلال في كنفهم . رحل أبي سنة ١٩٧٤ و هو يوصي الجميع بالمحبة و التآزر و الإصلاح . في ذلك الوقت كنت في كلية الهندسة المعمارية في المرحلة الثانية . لم يتغير شيء . فقد بقينا محافظين على ما اوصانا به أبي ( رغم مرارة الفراق و قساوة المشهد و مشقة الفقد ) . و تمر السنين سريعة و يصبح لي عائلة تتكون من (٣) أطفال و بنت رائعة الجمال و أنا ما زلت أعيش في بيت أبي مع أمي بعد أن أستقر جميع أخوتي مع عوائلهم ببيوت راقية في أحياء حديثة و حياة كريمة . ثم لتأتي سنة ١٩٩٠ و ترحل والدتي الى بارئها . بعد أن جمعت أخوتي قبل رحيلها بأيام و أوصتهم بعدم بيع البيت و التفريط به فهو (بيت حبيبها) الذي رحل قبل سنين طويلة . و يجب على أحد أولادها أن يُرضي إخوته و يشتريه و هي تفضل أن يكون محمود . يقول لي محمود ثم نظرت لي أمي (بعين حانية و إبتسامة تَوَسُل) . فبكى قلبي لنظرتها . فكنت أنا صاحب المبادرة و إشتريته من إخوتي بعد أن أعطيتهم .

بعد أن أعطيتهم جميع حقوقهم بكل محبة و رضا من الجميع . و حفاظاً على عهدي لأبي و وعدي لأمي . يقول لي الأستاذ محمود . بعد أيام قليلة سأكمل عامي السبعين . و أنا منذ ولادتي ما زلت أعيش في أركان هذا البيت الطيب المبارك . نفس الدرج الذي كنت أتزحلق عليه في طفولتي . و نفس الغرفة التي رقصت فيها عندما إستلمت نتيجتي في الصف الأول الإبتدائي و كنت الأول . ونفس الحمام الذي كانت تحممني فيه أُمي . و نفس الصالون و الشُرفة و العتبة . هنا نمت في حضن والدي . هنا كانت تدرسني أُمي . هنا كنا نتعصر . هنا كنا نلعب . هنا كنا نجتمع . ما زلت أتذكر وجوه بعض الضيوف و أحاديثهم الممتعة . و كأني أصور ما يحدث بشريط مخيلتي . ما زلت أسمع في كل ركن صدى صوت والدي . و ترانيم همسات أمي . و ضحكات مزاح إخوتي . و ما زلت آكُل على نفس (مائدة الطعام )  و أحافظ على إدامتها بجمالية صنعها الباهر و بخشبها الزان الثمين و نقشتها التراثية الفريدة . هناك ساعة قديمة (أم الرقاص) ما زالت معلقة بمكانها على الحائط و (بنفس المسمار) الذي ثبته والدي بيده قبل ولادتي . كلما إشتقت لتلك الأيام الخوالي . و أحرقني لهيب حنينها . جئت مسرعاً الى الساعة و (كَوَكتُها بمفتاحها المعلق في بطنها) و (دفعت رقاصها بِرِقة) ثم أستلقي على كُرسٍيّ الهزاز و أنا أصغي  . لتأخذني بعيداً . بنفس صوت تكاتها القديمة . و رنين ناقوسها العالي . و هو يقول لي . إسمع مني . و ترجم عني . و إفهم فإني . رنين ذكرى السنين . و (صدى صمت الراحلين ) . في ذلك الزمان الجميل . الذي ما زال يمضي و يَنسَلُ من بين يديك كل عام . وها أنا ذا أعود مرة ثانية . لأستفيق من غفوة أحلام اليقظة الجميلة . منذ أكثر من ٧٠ عام و كلما تقدم بي العمر . إمتدت أفآق مداركي أكثر . لأفهم و أستحضر تلك المواقف السعيدة و كأنها حقيقة . و أنا ما زلت أعيش بين جدران الذكريات . التي أصبحت واقعي . و كأنهم معي . أتنفس أنفاس والدي . و أُردد ترانيم همسات أُمي و أستشعر دفئ يدها و هي تمسح على صدري و رأسي . و أُعيد قهقهات مزاح إخوتي . تحت صفحات جفوني و تقلبات عيوني . و أنا أرتشف نفس فنجان القهوة الذي كان يحبه أبي . بكل سعادة و رضا . و رغم إني أصغر إخوتي . إلا أن بيتي هو الذي يجمعهم في كل مناسبة . لأني أنا الذي أملك (مفاتيح كنز طفولتهم . بل سعادتهم ) بهذا البيت الطيب المبارك . فتراهم كلما يجتمعون عندي . يتجولون فيه بقلوب تعتنق الجدران . وعيون تمسح كل الزوايا و الأركان . و تنهدات تختنق بين السعادة و الحرمان . و أحاديث تعيد لنا أجمل المواقف و الذكريات . و تنفض عن قلوبنا غبار كل الألآم و الآهات . 

￲لقد كبر أولادي و تزوجوا و أصبحت لهم عائلات و بيوت جميلة و بقي معي في البيت ولدي الصغير مصطفى و الذي سيكمل مسيرتي في الحفاظ على هذا البيت المبارك بعد رحيل

بعد رحيلي . و لي من مصطفى ( ٤ ) أحفاد صغار بعمر الورود  . و كأن الزمان قد توقف . لتعاد نفس تفاصيل تلك الحياة القديمة و تعود بحداثتها مع هذه الوجوه الحلوة الجديدة . وهي تحمل أنفاس و عبق الماضي الجميل . بنفس الدم و الصفات و القسمات . و كأني أنا أقوم بدور أبي مع أحفادي . قبل أكثر من ٧٠ عام . و بعد أن . عملت صيانة كاملة و حديثة للبيت من أنابيب و أرضيات و جدران و سقوف و كهرباء . لكني لم أغير تلك الفطرة السليمة التي أسس أبي عليها البيت من جدران المحبة و سقوف المودة و أبواب المسامحة و شبابيك العفو و التغاضي و إلتماس العذر و النصيحة و التواصي بصلة الأرحام . يا أخي هناك من يدفع الملايين من أجل الحصول على ذكرى تمس طفولته . و أنا كل يوم أنظر . بل أجلس مكان جلوس أبي و عن يميني خيالات طيف أُمي . و أتذكر أيام عزي و دلالي . و طفولتي و إجلالي . بتلك الشقاوة البريئة التي كانت تجبرني عل القفز بين أحضانهم و التسلق على أكتافهم . بين قهقهات ضحكاتهم . بيت أبي متحف حي . للأصالة و التراث بما يحتويه من أثاث فاخر و تحفيات ثمينة و مقتنيات نادرة .  ما زالت أشجار الحديقة زاهية و عالية و بهية و مثمرة منذ سبعين عام . ما عدا  (مرجوحة الحديقة) فقد أبدلناها قبل سنتين بالمرجوحة الرابعة خلال كل تلك السنين . ما زلت أعيش حلم الذكرى بيوم يكون لي معهم لقاء في رحاب الله و تقديرات حكمه و ملكوته . هذا ( سر ) روحانية بيتي الذي هو بيت أبي و سيصبح بيت ولدي مصطفى . بعد أن  إنتهى صديقي الأستاذ محمود من سرد قصة بيتهم . إستأذنته بكتابة هذه القصة و كشف ( سر )سعادته . فوافق بلا تردد . ولكنه قال لي . لعلك تستطيع أن تصل الى صدق مشاعري و سعادتي  . فقلت له إن شاء الله . 


google-playkhamsatmostaqltradent