recent
أخبار ساخنة

الخبازة صوفي مارسو . من قصص المدينة القديمة . بتصرف

الصفحة الرئيسية


الاستاذ /نشوان ذنون 

كاتب قصة عراقي 


يكاد ذلك الموقف من فكري أن يغيب . و أنا بين الظن و الشك المريب . أتخيله من بعيد . كالحلم السعيد . في أيام طفولتي . ولعبي وبرائتي . في سنة ١٩٧٢ . حيث كان عمري (٦) سنين . وأنا ذاهب الى بيت جدي . أمشي في الطريق وحدي . في محلة ( العبدوخوب ) . أتنقل بين الدروب . عندما نظرت الى (سطح) ذلك البيت العتيق . فأرهبني فيه ذلك اللهب و الحريق . بدخانه الأسود الكثيف . و رائحة (عطابهِ) المخيف . فإذا بتلك الحسناء الباهرة الجمال . فوق السطح تلبس ملابس الرجال . وكأنها جندي في ساحة قتال . وقد تهيأت للنزال . فأطلت برأسها على الطريق . فنظرت إليها بعين التحقيق . فإذا بها (كبدر التمام) . في ليلة شتوية غائمة وحالكة الظلام . و هي ترتدي (قمصلة) كبيرة قديمة شديدة السواد . وربطة رأس سوداء يكسوها الرماد . وهي تمسح وجهها المتعرق البهي . بطارف كُمها من على جبينها الوردي . وهي مازالت (تمطل) بين كفيها الرغيف . وخلفها تثور دومات الدخان المخيف . وأنا بذلك العمر الصغير . وقع في خاطري كأنها يمامة بيضاء تطير . بين عتمات النار و الدخان الخطير . بهذا الموقف إنتهت قصتي . و بدأت أتحسر عليها ويا حسرتي . ولكن ؟ . كان على باب ذلك البيت الصغير . رجل ضخم كبير . يقف بباب البيت المتهالك و هو يضحك بلا سبب و كلما مررت و في أي وقت . أجده بنفس البجامة (البازة) المخططة الزرقاء والشعر الأبيض الكثيف القصير . وهو دائم الضحك . لا يسكت أبداً . نقشت الأقدار صورته في مخيلتي . حتى مرت السنون متعاقبة سريعة تكاد أن تهوي بأعمارنا الى أرذله . وفي سنة (١٩٩٨) كنت أُتابع مع إخوتي على التلفاز فلم (القلب الشجاع) فظهرت الممثلة الفرنسية (صوفي مارسو) كانت والدتي تهيء لنا طعام الغداء عندما نظرت الى التلفاز . على حين غفلة فرأت الممثلة الفرنسية (صوفي مارسو) . فقالت متعجبة { الله يرحمكِ يا ( رجاء ) والله لولا إنه فلم لقلت هذه رجاء الخبازه } فلقطتُ الكلمة من فم والدتي . و إستجمعت ذاكرتي . و عدتُ سريعاً بفكري الى ذلك الدخان الأسود الكثيف و البيت القديم في الزقاق المخيف . و كان لي زيارة بعد عدة أيام الى بيت جدي . فذهبت من نفس الطريق . لأتذكر ذلك الموقف في طفولتي . فوجدت ذلك الرجل الضخم بعد (٢٦) سنة . قد أخذ الزمان منه عافيته و ضخامته و أصبح (كالخرقة البالية) . لكنه مازال يقف على باب ذلك البيت العتيييق و ما زال يضحك . عندما رجعت الى بيتنا . سألت والدتي عن ذلك البيت و الرجل الذي كان دائم الضحك على باب بيته . فقالت لي . يا ولدي هذا الرجل في محلتنا القديمة (العبدوخوب) كان مريض بعقله و إسمه (حميد ) . منذ ان ولدته أمه ( زكية الخبازة) كان بهذه (العاهة) ولا يدرك شيء من حوله . كان مدلل (عند أُمهِ) و قد ملك قلبها .. وقد شاءت الأقدار . ان يكون لزكية( بنت أخت) إسمها (رجاء) كانت صغيرة بأعمرانا فهي كانت من مواليد ١٩٤١ . كانت كل عائلة في الموصل تعلم فتياتها في ذلك الوقت على حرفة النقش أو الخياطة أو التطريز أو الدراسة . لتساعد نفسها و أهلها على تكاليف مشقة الحياة . فتعلمت رجاء . مهنة الخبازة . كانت تشبه الممثلة التي ظهرت في التلفزيون . كانت ((يتيمة الأبوين)) . رائعة الجمال . لو كان للجمال إسم لكان إسمه (رجاء) . سبحان الخالق الوهاب . ملكة بجمالها وأخلاقها . لا تشبه مثيلاتها في سحر العيون و الحاجب و الرمش و الجفون . و تقاسيم وجهها فتنة لمن يراها . شقراء رشيقة عيونها لون السماء . و شعرها أمواج الصحراء . و شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى . أن تتكفل خالتها بتربيتها وهي بنت ( ٦ ) سنين بعد وفاة والديها . و تعليمها مهنة (الخبازة) . منذ نعومة أظفارها . لتقف تلك الأميرة الجميلة . طوال النهار . في زمهرير برد الشتاء . و لظى حر الصيف . و هي بفم التنور تخبز بلا كلل أو مملل . وبعد أن زوجتها خالتها الى ولدها حميد . ( بدون رأي منها أو مشورة أو إراده ) . قبلت لستر الحال و ليطوي الزمان صفحاته على واقع . كانت الحياة فيه عبارة عن ( لُقمة تسد الرمق و هِدمة لستر الحال و سقف متهالك لا يخلو من طعين رطوبة الشتاء و فحيح لهبات الصيف) . كان البيت لا تتجاوز مساحته ( ٤٠ ) متر مربع . كانت أخواتك الصغيرات يتحججن عليا من أجل الذهاب لشراء الخبز من بيت رجاء . (فقط من أجل رؤيتها) و يا سبحان الله (كان جمالها يأخذ العقول) . في أواخر أيام سنة ١٩٧٢ ماتت خالتها زكية أم حميد . و رجاء كانت قد أصبحت أم ( لسبعة أولاد ) خمس بنات و ولدان . ليأتي الأخ الكبير لحميد من أبيه بعد (٣ أيام) على وفاة زوجة أبيه . و يطالب رجاء بترك البيت . لكي يبيعه ( فأنت تعلم يا ولدي فإن عين الوارث قوية ) فقالت له و أخوك المريض و أولاده الصغار . فقال لها نصيبي وحصتي و حقي في البيت . فقالت له ( انت قد كفاك الله و أعطاك و أغناك ) . أفلا تجعله دين في رقبتي . نوفيه لك مع مرور الأيام . فضحك و قال توفيه من ( التنور يا أم الخبز المحروق ) . اليوم تبحثون لكم عن بيت للإيجار أنتِ و هذا المجنون . و أنا سأبيع . ولا أحد يمنعني من دخوله . و كان معه (المخمل) الذي سيبيع البيت .. فوقفت تلك الأميرة بباب البيت ساندة يديها على جدرانهِ و منعته من الدخول و قالت له على جثتي لن تدخل و لن تبيع . (فرفسها بقدمه) على خاصرتها رفسة قاتلة في لحظة همجية شيطانية .. سقطت على إثرها تلك الجميلة (ميتة) في الحال . بين صرخات أولادها و دموع بناتها و ضحكات زوجها حميد . هرب العم بفعلته الدنيئة . و بعد أيام تنازل عن البيت الى أولاد أخيه . بشرط أن يسقطوا الدعوة عن عمهم  . وهذا ما حدث . لَبست البنت الكبرى قمصلة أُمها و سجرت تنورها . لتبدا قصة جديدة لخبازة جديدة في محلتنا القديمة .

الآن و أنا أمر من ذلك الزقاق المهدم . أجد أثر خيالات لملكة باهرة الجمال ضاع عمرها أمام تنور من الطين . وأحجار مبعثرة بين الركام عليها آثار دخان قديم  . تم

google-playkhamsatmostaqltradent