recent
أخبار ساخنة

مناجاة في محراب الأمومة

 


نشوان ذنون عبد الله (ابو بدران)  

في سنة ١٩٨٩ كنت برتبة ملازم وكان لي صديق من أهل مدينة الموصل برتبة نقيب ذو شخصية محترمة و مهيبة . كنا نخدم بنفس الوحدة العسكرية في منطقة الدورة في بغداد . و كانت تربطنا علاقة أخوية صادقة ضمن الأسس والتقاليد العسكرية الصحيحة . وكان العمل ممتع جداً . لإنسجامنا مع بعضنا ضمن محيط العمل . الكل يعرف واجبه و لا يقصر أو يؤثر على أصحابه . بلا منغصات أو قيل و قال . و لم تكن هناك سلبية في نفسية الجميع و الحمد لله . بل كانت البسمة و الطرفة و النكته و المدح بلا قدح هي سيدة الموقف . كانت سنة ١٩٨٩ من أجمل سنين العمر في الخدمة العسكرية . . 

المهم

في سنة ١٩٨٩ و بين فترة و أخرى كنت ألاحظ صديقي النقيب و هو يبكي بصمت في خلوته . و يدعو ربه في سرِه بسريرته . بكاء و ألم . و حسرة بندم . لم أكن في وقتها أستطيع ان أسأله لأُواسيه بأي كلمة و أقطع عليه خلوته . فبها نوع من سعادته . لأن البكاء في بعض الأحيان تنفيس للهموم . و طرد للأهآت و السموم . مضت سنة ١٩٨٩ مسرعة و كأننا لم نعشها و سحبت معها أكثر من ٣٣ سنة من أيام العمر الضائعة مع تواريخها . و التائهة بأحداثها . وها نحن في صيف سنة ٢٠٢٢ نلتقي مرة ثانية في زيارته لي في محلنا في منطقة الزهور في الموصل الحبيبة . و أخذنا الحديث ممتع و ذو شجون في ذكريات الحياة و تقلبات الأيام . و ساعدني الموقف على ان أسأل صديقي عن سبب بكائة في ذلك الوقت .

فسكت قليلاً ثم لمعت عيناه ببريق من الشوق و الحزن و الأسى . ثم قال لي . ومن قال لك يا صديقي . إني تركت البكاء . فهو صديق عمري الفاني . أم أنك تتوقع أني طويت أحزاني . في صفحات كتاب عمري . لا ياصديقي فهناك صفحات في كتاب العمر . عليها قصاصات خارجية للتذكير . فلا يكاد يمر إسبوع أو شهر إلا ونعود إليها لنقرأها و نتأثر بها . فبها كنا نعيش .

فأنا من مواليد ١٩٥٩ كنت أصغر إخوتي فكنت المدلل و المُفدى في البيت . في سنة ١٩٧٥ كان عمري ١٦ سنة في قمة الفتوة والحيوية و النشاط . لكن لم أصل بعد الى فهم ما يجري من حولي بإدراك صحيح و تقييم صريح . مرضت إحدى أخواتي في تلك السنة وكان عمرها ١٨ سنة و عكفت والدتي معها تحنو عليها تداريها و تواسيها بعطفها و حنانها . و أذكر في أحد أيام الخميس من تلك السنة و قد عدت لتوي من المتوسطة . إستقبلتني والدتي بالمحبة كعادتها كل يوم و قدمت لي طعام الغداء بكل أريحية . ثم أرسلتني لجلب إحدى النساء من أقربائنا . بعد ساعة أحضرتها و بعد ان وصلت البيت معها عرفت ان أختي قد توفيت منذ الصباح بذاك المرض الخبيث . و أمي تكابر و تحبس دموعها و قهرها من أجل ان لا تحزنني . مضت الأيام حزينة ثقيلة كئيبة قاسية مملة و أمي لا تجف لها دمعة و لا يغفو لها جفن . بعد رحيل إختي و بعد (٧) أيام بالضبط . توفيت والدتي بحزنها المرير و ألمها الكبير على أختي و في يوم الخميس الثاني . آه يا أماه . أي قلب كنت تحملين . و أي هم كنت تكتمين .  ليبقى والدي يعيش المحنة والوحدة رغم وجودنا حوله . لكن الحزن على إبنتهِ و زوجته أكبر من أن تتحملها مشقة الحياة . ثم ليرحل والدي في سنة ١٩٧٨ . هذه الأحداث عشتها في حالة من اللاوعي . بين فتوة وشبوبية باهرة . وأحداث عائلية قاهرة . كان عمري ١٩ سنة يوم رحيل أبي . يا أخي . فهمت بعد رحيلهم معنى الأمومة التي (لم أشبع منها) و حاجتي إليها . فهمت بعد رحيلهم معنى (عطف الأبوة) و حاجتي إليها . فهمت بعد رحيلهم معنى (حب الأُخُوة) و حاجتي إليها . لم أفهم . عندما كانوا أحياء أمام عَينَي و بين يَدَي . لم أُدرك في وقتها . لم أشعر بسعادة تلك الأيام التي كانت تجمعنا إلا بعد رحيلهم . و بعد أن رحلوا . وخلت الدار من وجودهم . و أصبحت أتعطش الى دقيقة واحدة من محبتهم . هنا (عرفت الحقيقة) . آه . لم تسعفني الأيام لخدمتهم . لم تعطني الحياة فرصة لأعوظهم . لم تمهلني الأقدار . لأرد الجميل لهم . لِمى صنعوه معي من تربية و خدمة ودلال و تضحية . و لأرد لهم و لو جزء بسيط من محبتهم . هنا في هذه الكلمات و عند هذا الموقف . شهق صديقي بالبكاء . وقال . أنا لا أَمّل ولا أتعب من الدعاء لهم . هذا ما يربطني بهم ( الدعاء ) فقط . أراهم في خيالاتي و يقظتي . وكأني أعيش معهم . بثواني عابرة وكأنها (كل حياتي) . (فمن يحبني مثلهم) .... هذه الكلمات من صديقي . كانت تتناثر على مسامعي كتراتيل الذكر . و تحملني بأجنحة الأنس على روض السحر . فيخشع قلبي لِمى أسمع . و تهون بعيني الدنيا فلا أطمع . و تتدفق معها دموع صديقي . غزيرة .و كأنه يتشبث بحبال الدعاء . للتواصل معهم والنجاة . يقول صديقي . عجبت على من والديه أحياء و (يعقهم) . عجبت كيف (ينقطع) عنهم و لا يزورهم . أو حتى لا يتصل بهم . إذهب يا أخي و سترى (رحمة الله عندهم) إذهب و سترى (الجنة تحت أقدامهم) . إذهب و (تذلل) و (قَبِل الأيادي و الأقدام) . لتذوق (طعم العبادة) . بل (طعم السعادة) . هنيء لمن أحسن معاملتهم و عَبدَ الله فيهم . فرِضاهم جنة عرضها السموات والأرض .. و عقوقهم نار .

google-playkhamsatmostaqltradent