recent
أخبار ساخنة

خواطر (موصليه) نشوان ذنون

الصفحة الرئيسية


تخت و ثلاث دبابات ..


أعرفه منذ أن كنت صغيراً .. و كأني أنظر إليه الآن .. وهو يتباهى بشبابه الغض الجميل .. وبمشيته الأنيقة .. و عيونه الزرقاء الساحرة .. و بطوله الرشيق .. و بعضلاته المفتولة .. و التي كانت تزيده حُسن و بهاء .. فهو يحمل كل صفات الرجولة الكاملة .. و بكل معانيها و مفرداتها الكامنة .. من ذكاء و فطنه و شجاعة .. و غيرة و شهامة و نخوة .. و عزة و أَنَفَه و كبرياء .. و معروف و إنكار ذات و إحسان .. نعم أعرفه جيداً .. فهو صديق أبي ( رحمه الله ).. .. كان أسمهُ ( محمد ) من مواليد محلة (العبدوخوب) سنة ١٩٥١ .. تطوع ( محمد ) الى الجيش وعمره ( ١٧ ) سنة في سنة ١٩٦٨ .. و الى صنف الدروع .. ( الدبابات ) .. و أصبح سائق دبابة ماهر .. ومنذ ذلك الحين .. أصبح أبي يسميه ( محمد الجندي ) وهكذا اصبحت شهرته .. في المحلة .. و بين كل الأصحاب و الأصدقاء .. بدأ خدمته العسكرية نهاية الستينات و سنوات السبعينات و شارك في حرب فلسطين سنة ١٩٧٣ .. حتى بدأت معارك الثمانينات .. لم تنقطع اخبار ( محمد الجندي ) عن بيتنا .. فقد كان أبي يتابع أخباره أول بأول .. أذكر في احد أيام سنة ١٩٨٥ .. قال أبي .. في هذه السنوات الخمس من الحرب .. هذه ( المرة الثالثة ) التي تحترق فيها ( دبابة محمد الجندي) و في كل مرة .. هو الوحيد الذي ينجو من الموت المحقق من بين طاقم الدبابة .. دون ان يخدش او يجرح .. فياسبحان من قسم الأرزاق و الأقدار و الآجال .. ومرت الأيام تترى تسابق بعضها بعض في ذاكرة الزمان .. لتضيع معها أرقام تواريخها و عناوين أيامها .. و إنتهت الحرب .. و إنطوت السنون و كأننا لم نعشها و هكذا دائماً تكون .. ورحل أبي عن عالمنا في سنة ١٩٩٣ .. وما زال هناك باب للسلام و المودة و الإحترام ( بيننا و بين صديقه .. محمد الجندي ) حيث كان يمر الى سوق باب السراي .. من أجل التحية و السلام .. وهو مازال يحافظ على بعض شبوبيته الرائعة و الكثير من وسامتهِ الجميله .. و في سنة ( ٢٠١٤ ) .. وفي بداية أحداث الموصل في نهاية الشهر السادس من تلك السنة .. بدات بعض العمليات العسكرية البسيطة .. تجاه الموصل عن طريق الطائرات المسيرة .. وكانت نسبة الخسائر اليومية بالنسبة للمدينة هي ١ / ١٠٠٠٠٠٠٠ واحد بالمليون .. كان يقتل شخص واحد من أبناء المدينة لكل مليون و عن طريق الخطأ .. كأحداث يومية نتابعها بنشرة الأخبار .. وأذكر في حينها كانت بداية الصيف وقسم من أبناء (المدينة القديمة) بالذات .. ينامون على السطوح و بعضهم في الحوش او في السراديب أو شرفات البيوت إن وجدت هروباً من جو الصيف الحار .. ويا سبحان الله .. كان ( محمد الجندي ) ينام في أحد تلك الليالي .. في بيته في محلة (العبدوخوب) و في غرفة نومه الخاصة .. و على سريره الناعم الوفير .. هو و زوجته .. و بكامل طمأنينته على نفسه و بيته .. عندما جاءه صاروخ بالخطأ من طائرة مسيرة .. كانت تقصد هدف آخر .. لتسقط القذيفة بالضبط على ( تخت نومه ) و بشكل مباشر و عن غير قصد .. ليقتله هو و زوجته .. في لحظته .. ولتنتهي قصة حياة رجل .. شارك في معارك دامية في السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي .. و لتحترق به ثلاث دبابات .. دون ان يصاب أو يخدش او يجرح أو حتى يتألم .. فيا سبحان الله .. عندما حان الأجل و أصبح الوعد (قضاء مكتوب) .. جاءه على غرفة نومه من بين مليون شخص من مدينة الموصل .. نعم مات ( محمد الجندي ) الذي كان لا يخاف و لا يهاب .. و لا يتأثر من صراخ الموت في أُذنيه .. و إزدحام المنايا من حولة .. و مع تساقط شظايا النار بين يديه .. وهي تنحر أصدقاءه و أصحابه أمام عينيه ..

وصدق الله العظيم في كتابه الكريم .. ((أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) النساء (٧٨) .. لم تنتهي قصة ( محمد الجندي ) ولم يسدل عليها الستار .. فهي مازالت تاريخ .. تروى في مجالس الحكمة و العبر .. و الموعظة و الفِكَر .. و الأنس و السمر .. والليل و السهر .. و الأذكار بالسَحر .. تتبتل بعظيم تدبير الله سبحانه و تعالى .. في عباده .. لكل منا رواية و نهاية و خاتمة .. فهنيء لمن أدرك لنفسه باب لنهاية سعيدة .. و الخروج منها بالفوز بالجنة و النجاة من النار ..

((و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)) .. العنكبوت (٦٤)


google-playkhamsatmostaqltradent